في خطوة الغرض منها الهروب من أزماتها الداخلية والخارجية المتفاقمة بتهديد دول الجوار العربية وتعزيز احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، أقدمت إيران مؤخراً على تدشين قاعدة عسكرية في ميناء "لنجة" على الساحل الفارسي المواجه لمضيق هرمز، تحت اسم "قاعدة الإمام محمد الباقر"، لتعسكر بذلك هذا الميناء الهادئ المسالم، وتجعله خط النار الأول في أية مواجهة بحرية إذا ما اندلعت حرب جديدة في الخليج. ولمن لا يعرف "لنجة"، فإنها مدينة على ساحل الخليج العربي، وجزء إداري من محافظة "هرمزكان" التي تمتد على سواحل الخليج بطول 187 كيلومتراً وبمساحة 7.7 ألف كيلومتر مربع تقريباً، وعدد من السكان يبلغ 1.5 مليون نسمة. وتحد هذه المحافظة الإيرانية، التي تشتمل على أرخبيل من الجزر الكبيرة والصغيرة من الشمال محافظة كرمان، ومن الشرق محافظات سيستان وبلوشستان، ومن الغرب محافظات فارس وبوشهر، ومن الجنوب بحر عمان وخليج العرب. وتعتبر "لنجة" بوابة الدخول إلى بر فارس السُني، حيث تقطن الأقوام والقبائل ذات الجذور العربية ممن اضطر الكثيرون من أبنائها للنزوح إلى دول الخليج العربية في هجرات متتابعة منذ القرن الـ 19 بحثاً عن الرزق أو هرباً من الاضطهادين المذهبي والعرقي. هذه المنطقة التي استوطنتها القبائل العربية منذ عصور ما قبل الإسلام، ظلت – طبقاً للرحالة الدانماركي "كارستن نيبور" - مستقلة لمدة طويلة عن السيادة الإيرانية، وحافظ أهلها على لسانهم وزيهم العربي وعاداتهم وأنماط مساكنهم العربية، مكتفين بامتهان أعمال الصيد البحري ونقل البضائع ما بين الساحلين العربي والشرقي للخليج، إلى أن رسم نادر شاه الافشاري خطة لتفريس المنطقة بالقوة عبر نقل سكانها العرب بعيداً إلى بحر قزوين وإحلال الفرس الشيعة مكانهم. غير أن هذه الخطة لم تنجح تماماً بفضل صمود العرب السُنة من أهل "لنجة" وما جاورها من مقاطعات مثل بندر عباس، وجاسك، وخمير، وقشم، أو بلدات مثل شيبكوه، وبستك، وعوض، وجناح، وكوخرد، وباغ، وجارك، وغابند، وكنك، ومغوه، ولاور، وكلدار، وبوجير، أو قرى صغيرة مثل تشاه مسلم، وتشاه عبدالرحمن، وبستانه، وسورو، وجنكل، وديوان، ودزكان، وكندران، وشناص. والمعروف أنه في العصور الحديثة، وكما تروي المصادر التاريخية المختلفة، سيطر أبناء عمومة القواسم من حكام إمارتي الشارقة ورأس الخيمة الحاليين على أراضي "لنجة" وتوابعها بدءاً من عام 1750 ، وخاضوا معارك بحرية شرسة للدفاع عنها في مواجهة الغزوات البرتغالية والهولندية، ومحاولات الفرس بسط سيطرتهم عليها. ولعل أشهر حكام "لنجة" من القواسم هو الشيخ خليفة بن سعيد بن قضيب القاسمي الذي تولى حكمها من عام 1820 وحتى وفاته في عام 1874 ، حينما خلفه ولده الصغير علي الذي فـُرض عليه وصي سيئ اسمه محمد يوسف. فأنتهزت الحكومة الإيرانية هذا الوضع للتدخل في شؤون"لنجة"وفرضت ضرائب باهضة على سكانها ممن لم يستطيعوا أداءها وفضلوا الهجرة إلى المشيخات العربية الواقعة على الضفة الأخرى من الخليج، خصوصاً وأن الأخيرة كانت تشهد وقتها إزدهاراً في تجارة التجزئة واللؤلؤ. ولم يكتف الإيرانيون بفرض الضرائب، إنما عاودتهم أحلام نادر شاه في السيطرة التامة على "لنجة" وتغيير هويتها العربية، فشجعوا الوصي محمد بن يوسف على التخلص من الحاكم علي بن خليفة القاسمي قتلاً، متعهدين للأول بتعيينه حاكماً بديلاً. وقد تم بالفعل تنصيب محمد بن يوسف حاكماً على لنجة في عام 1878 بعدما نفذ ما طـُلب منه، لكنه لم يهنأ بالسلطة طويلاً. إذ قتله بعد سنوات قليلة قضيب بن راشد القاسمي الذي تولى الحكم من بعده. وحاول الأخير الاستقلال بلنجة عن الحكومة المركزية الإيرانية بدعم من حكام رأس الخيمة والشارقة القواسم. الا أن المقيم البريطاني في بوشهر حذر حكام هاتين المشيختين من الاشتراك في ذلك النزاع، الذي سوي بشكل مؤقت بموجب اتفاقية وقعت في عام 1885 اعترفت فيها إيران بحكم الشيخ قضيب مقابل ضريبة سنوية قدرها 190 ألف قران إيراني. لكن الاتفاقية لم تنه حالة التوتر في العلاقات بين الإيرانيين وحكام "لنجة" القواسم. إذ سرعان ما تراجع الإيرانيون، بعد موت الشيخ قضيب في عام 1895 وتولي الشيخ محمد بن خليفة بن سعيد بن قضيب الحكم، عما وقعوا عليه، وعادوا للتعامل بقسوة مع القواسم ورعاياهم في بر فارس العربي، وذلك من خلال إرسال أحد قادتهم العسكريين الغلاظ (حاجي أحمد خان دريابيكي) على رأس حملة عسكرية. واستطاع دريابيكي أن يلحق الهزيمة بجيش الشيخ محمد بن خليفة رغم استبساله وصموده لعدة أيام، بسبب مساعدة الإنجليز وشيعة "لنجة" له، وتحايله وتآمره وتجسسه على القواسم الذين أحسنوا الظن به وأكرموه كعادة العرب. ولما رأي الشيخ محمد أعمال التخريب والاغتصاب التي يرتكبها دريابيكي ضد أهل "لنجة" السنة، آثر أن يغادرها إلى الشارقة رحمة بهم. وهكذا طويت في عام 1898 صفحة حكم العرب للنجة التي دامت نحو 150 عاماً، وبدأت حقبة السيادة الإيرانية عليها، علماً بأن السنوات الأولى التالية مباشرة لانتهاء حكم القواسم في "لنجة" كانت أمور الأخيرة تـُدار من الباطن بأيادي الإنجليز. إننا لم نسرد ما سردناه هنا من وقائع تاريخية اعتباطاً، وإنما لنؤكد من خلالها عدة حقائق: أولاها أن الأطماع الفارسية في أراضي العرب قديمة جداً وليست وليدة اليوم أو وليدة ظهور النظام الفقهي الحالي في طهران، وهو ما يتجدد الآن في تصريحات وتهديدات ملالي طهران وقادة حرسهم الثوري، وثانيتها أن الفرس لم يحترموا يوماً تعهداتهم إزاء شركائهم في بحيرة الخليج، وإنما كانت أطماعهم تدفعهم دوماً للتخلي عما وقعوا عليه، وهو ما لاحظناها في السنتين الأخيرتين حينما عادت الأبواق الإيرانية للمطالبة بالبحرين، دونما احترام للاتفاقيات والقرارات الدولية الخاصة بإعلان البحرين وطناً عربياً مستقلاً (قرار مجلس الأمن الدولي رقم 278 لعام 1970 ). أما الحقيقة الثالثة، فهي أن القوى الغربية مثل بريطانيا ساهمت تاريخياً بصور مختلفة في تشجيع الإيرانيين على الإضرار بالحقوق والسيادة العربية، وهو ما تقوم به اليوم بريطانيا ومعها الولايات المتحدة عبر اصطفافهما مع عملاء إيران في منطقة الخليج، وتشجيعهم على ممارسة الفوضى والخروج على الأنظمة الشرعية تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين البريد الإلكتروني: elmadani@batelco.com.bh